مقالة : واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال : 25] يحذر تعالى عباده المؤمنين فِتْنَةً واختبارًا ومحنة، يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب، بل يعمهم حيث لم تدفع وترفع.
قال البخاري في صحيحه: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا -يَعني السَّلَفَ-يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ** تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا ** وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ** مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
والمرادُ أنَّ الحربَ تعرضُ لمن لم يجرّبْها حتى تَغُرَّهُ فيدخلَ فيها فتهلكَهُ. والمرادُ بالتمثلِ بهذه الأبياتِ استحضارُ ما شاهدوه وسمعوه من حالِ الفتنةِ فإنَّهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا.
وجاء في المثلِ العربيِّ: أول الغزو أخرقُ، أي أحمق أو مدهش، والخُرْقُ بالضم وبالتحريكِ: ضِدُّ الرِفْقِ وأن لا يُحْسِنَ الرجلُ العَمَلَ والتَّصَرفَ في الأُمورِ والحُمْقُ.اهـ وقال أبو عبيد يضرب في قلة التجارب وصف الغزو بالخرق لخرق الناس فيه.اهـ
وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معديكرب : صف لنا الحرب قال : مُرَّةُ المذاق ، إذا كشفت عن ساق من صَبر فيها عُرِف ، ومن نكل عنها تَلف.
وقيل لعنترة الفوارس : صف لنا الحرب فقال : أولها شكوى ، وأوسطها نجوى ، وآخرها بلوى. وقال الكميت :
والناسُ في الحرب شتى وهْي مُقبلة ** ويستوون إذا ما أدْبر القُبُلُ
كلُّ بأَمْسِيِّها طَبٌّ مُوَلِّيَةً ** والعالمون بذي عُدْوِيِّها قُلُلُ
وقال نصر بن سيار صاحب خُراسان يصف الحرب ومبتدَأ أمرها :
أرى خَلَلَ الرَّماد ومِيضَ نار ** ويُوشك أن يكون له ضِرَامُ
فإنّ النّار بالعُوديْن تُذْكى ** وإنّ الحربَ أولها الكلامُ
وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام : الشر حلوٌ أوله ، مُرٌّ آخره
والعرب تقول : الحرب غشوم لأنها تَنال غيرَ الجاني، وقال الحبيب :
والحرب تَرْكب رأْسَها في مشْهَدٍ ** عُدِلَ السَّفيهُ به بألْفِ حليمِ
في ساعةٍ لو أنّ لُقماناً بها ** وهو الحكيمُ لكانَ غير حكيمِ
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمتَهُ من الدخولِ في الفتنِ فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: «إنَّ بينَ أيديكم فتناً كقِطَعِ الليلِ المظلمِ يصبحُ الرجلُ فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبحُ كافراً القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي» قالوا: فما تأمُرُنا؟ قال: «كونوا أحلاسَ بيوتِكم» حديث صحيح رواه أبو داودَ وغيره.
وعن المقدادِ بنِ الأسودِ قال سمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يقولُ: «إنَّ السعيدَ لَـمَنْ جُنِّبَ الفتنَ، إنَّ السعيدَ لَـمَنْ جُنِّبَ الفِتنَ، إنَّ السعيدَ لَـمَنْ جُنِّبَ الفتنَ وَلَـمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهاً». حديث صحيح رواه أبو داود
قوله: (فواهاً)، معناه التلهف والتحسر، وقيل معناه الاعجاب والاستطابة أي ما أحسن وما أطيب صبر من صبر عليها.
وعن ابن عمرو ضي الله عنهما قال بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال فقمت إليه فقلت كيف أفعل عند ذلك جعلني الله تبارك وتعالى فداك قال الزم بيتك وابك على نفسك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «ستكون فتن كرياح الصيف القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي من استشرف لها استشرفته» أخرجه ابن حبان في صحيحه.
عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس فى ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل ومنا من هو فى جشره إذ نادى منادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال « إنه لم يكن نبى قبلى إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها فى أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجىء فتنة فيرقق بعضها بعضا وتجىء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتى. ثم تنكشف وتجىء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذى يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ». فدنوت منه فقلت له أنشدك الله آنت سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال سمعته أذناى ووعاه قلبى. فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) قال فسكت ساعة ثم قال أطعه فى طاعة الله واعصه فى معصية الله. أخرجه مسلم
وحذرنا من دعاة الفتنة فقال: « آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد ، والهجرة ، والجماعة ، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ، ومن دعا دعوى الجاهلية ، فإنه من جُثَى جهنم ، فقال رجل : يا رسول الله وإن صام وإن صلى ؟ قال : وإن صام وإن صلى ، فادعوا بدعوى الله التي سماكم المؤمنين عباد الله» أخرجه الترمذي والنسائي في الكبرى وصححه ابن خزيمة من حديث الحارث الأشعري.
وعن حذيفة – رضي الله عنه قال : «كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قلا : نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ، فقلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا ، قال قال : [نعم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا] فقلت : يا رسول الله ، فما ترى – وفي رواية : فما تأمرني – إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ؟ قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». أخرجه البخاري ، ومسلم. وفي رواية لمسلم قلت : «ما دخنه ؟ قال : قوم لا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ، قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : تسمع وتطيع ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع»
اللهم جنبنا الفتن واعصمنا منها واحم بلادنا منها وصلى الله على نبينا محمد
كتبه
فضيلة الشيخ :سعد بن شايم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى