1-دروس علمية

“وإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ “

المعسر هو المدين الذي عجز عن وفاء دينه سواء كان قرضاً أو ثمن مبيع، وليس عنده قدرة على الوفاء ولا عنده عقار أو غيره زائد عن حاجته يمكن أن يبيعه ليسدد دينه، فعند ذلك أوجب الله تعالى إنظاره حتى ميسرة. قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر. والنظرة- بكسر الظاء- الانتظار.

وفي هذه الآية يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي. قال العلماء: بل الواجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به. ثم ندب تعالى إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين.

ومورد الآية وإن كان على ديون معاملات الربا –كما في الآيات قبلها-، لكن جمهور العلماء عمموها في جميع المعاملات والديون كما دلت عليه الأحاديث، ولم يعتبروا خصوص السبب لأنه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال دينا بحتاً، وليس الإنظار لأنه بعقد ربا، بل لأنه دين والواجب فيه إنظار المعسر لا الربا عليه، والقاعدة الشرعية أن العبرة بعموم اللفظ بخصوص السبب، ومما يؤيده عمومها في كل الديون أن الآيةَ وإن كانت في سياق أحكام الربا إلا أنها جاءت بلفظ يدل على العموم، وهو أن «كان» في قوله: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) هي كان التامة، التي بمعنى «وُجِدَ» فمعنى الآية: «وإن وُجِد ذو عسرة»، فتدل على الاستقبال بلفظها، وليست كان الناقصة، لأنها لو كانت ناقصةً لنصبت «ذو» على أنه خبرها، ويكون السياق: «وإن كان ذا عسرة» ويكون اسمها ضميراً يعود للمدين بالربا السابق ذكره في الآيات قبلها. ولكن جاءت بلفظ كان التامة وعاملها «ذو» فهي بمعنى «وُجد» لتأكيد العموم، لِئَلاَّ يتوهم متوهمٌ أن الحكم خاص بمدين الربا كما ظنه القاضي شريح قاضي الكوفة، وخالف في ذلك جمهور العلماء! والظاهر أن الذي حمله على هذا هو ما وقع في قراءة عبد الله بن مسعود: «وإن كان ذا عسرة» وقد كان في الكوفة رضي الله عنه، فلعل شريحاً كان يقرأ بها، فبنى فقهه عليها! وهي قراءة خلاف قراءة الجمهور، قال أبو محمد مكي بن أبي طالب في كتاب «الهداية الى بلوغ النهاية» (1/ 911): قوله : (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) . أي إن وقع ذلك، ولا خبر لـ(كان) ، هي كان التامة تستغني باسمها عن الخبر. فليست بالداخلة على الابتداء والخبر ، تلك هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر . وقد قيل : إن الخبر محذوف ، والتقدير : وإن كان ذو عسرة في الدين فنظرة إلى ميسرة. وفي مصحف عبد الله: « وَإِنْ كَانَ ذَا» بالألف على تقدير : وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة ، فهي (كان) الناقصة على هذا .اهـ.

والمراد بالمعسر من استدان لحاجته في معاملة أو قرض وحل عليه الدين ولم يجد ما يوفي به ما عليه، وليس المراد به المماطل الذي يأخذ أموال الناس ولا يردها، وهو قادر، فإن ذلك ظالم يجب عليه الوفاء ولصاحب الحق أن يرغمه على ذلك ولو ببيع ماله الزائد عن حاجته الضرورية. وهذا ما يفعله ولاة الأمر.

هذا وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالحث على إنظار المعسر، ومنها:
1-عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فَلْيُيَسِّر على معسر أو ليضع عنه» أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/304) وصححه الألباني.

2-وعن بريدة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة » أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/360) والبيهقي (11295) والحاكم (2225 ) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني.

3-وعن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي. قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة». أخرجه أحمد في المسند (5/308) بسند صحيح.

4-ورواه مسلم في صحيحه ( 1563) عن عبدالله بن أبي قتادة : أن أبا قتادة طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال إني معسر فقال آلله ؟ قال ألله قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه»
5-وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر» أخرجه أحمد المسند (4749) وفي سنده ضعف.

6-وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – :قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «مَن نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة ، ومن يَسَّرَ على مُعْسِر، يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخِرَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِما سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ ، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عَونِ أَخيهِ» أخرجه مسلم (2699).

7-وعن أبي مسعود البدري، عن النبي ^ أنه قال: «حوسب رجل فلم يوجد له خير، وكان ذا مال فكان يداين الناس، وكان يقول لغلمانه: من وجدتموه غنيا فخذوا منه، ومن وجدتموه معسرا فتجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عني، فقال الله تعالى: أنا أحق أن أتجاوز عنه» أخرجه مسلم(1561). وفي رواية: « فقال الله لملائكته: فنحن أحق بذلك ؛ فتجاوزوا عنه».

وله أيضاً عن ربعي ابن حراش قال اجتمع حذيفة وأبو مسعود فقال حذيفة : «رجل لقي ربه فقال ما عملت ؟ قال ما عملت من الخير إلا أني كنت رجلا ذا مال فكنت أطالب به الناس فكنت أقبل الميسور وأتجاوز عن المعسور فقال تجاوزوا عن عبدي». قال أبو مسعود هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول.
وكان النبي ^ يشفع في الوضع عن المعسرين.

8-فعن كعب بن مالك، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى يا كعب قال: لبيك يا رسول الله قال: ضع من دينك هذا وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله قال: «قم فاقضه». رواه البخاري (445) ومسلم (1558).

9-وعن نافع عن ابن عمر وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:«من طالب حقا فليطلبه في عفاف واف أو غير واف» أخرجه ابن ماجة (2421) وصححه الحاكم (2238) وابن حبان (5080) .

10-و عن أبى بن كعب قال : دخل نبى الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وأبى بن كعب ملازم رجلا قال فصلى وقضى حاجته ثم خرج فإذا هو ملازمه قال :« حتى الآن يا أبى حتى الآن يا أبى من طلب أخاه فليطلبه بعفاف واف أو غير وافى ». فلما سمع ذلك تركه وتبعه قال فقال : يا نبى الله قلت قبل:« من طلب أخاه فليطلبه بعفاف واف أو غير واف ». قال :« نعم ». قال : يا نبى الله ما العفاف؟ قال :« غير شاتمه ولا متشدد عليه ولا متفحش عليه ولا مؤذيه ». قال واف أو غير واف قال :« مستوف حقه أو تارك بعضه ». رواه البيهقي في «السنن» (11619) و«شعب الإيمان» (11257).

11-وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان هينا لينا قريبا حرمه الله على النار» رواه الحاكم (435 ) وقال صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني.

12-وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار ومن تحرم عليه النار على كل قريب هين سهل» رواه أحمد (3938 ) والترمذي وأبو يعلى (5053 ) وقال الترمذي: حديث حسن غريب ورواه الطبراني في الكبير (10562 ) وابن حبان في «صحيحه» (469) بإسناد جيد بلفظ : «إنما تحرم النار على كل هين لين قريب سهل». وحسنه الحافظ ابن حجر في «الأمالي الحلبية» (ص: 35)
13-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخل رجل الجنة بسماحته قاضيا ومقتضيا» رواه أحمد(6963) وحسنه الألباني.

14-وعن سهل بن حنيف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» أخرجه أحمد (15987) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (23018 ) وصححه الحاكم (2860 ) وحسنه الحافظ ابن حجر في «الأمالي المطلقة»
إذا تقرر هذا فالواجب على من أدان شخصاً وعلم أنه قد أعسر ولا يستطيع سداده لعدم قدرته فلا يحل له أن يحبسه أو يضطره إلى الاستدانة أو بيع ضرورياته وحاجياته؛ بل الواجب عليه إنظاره لقوله تعالى: (فنظرة إلى ميسرة) وليحتسب الأجر وينتظر الفرج، ويتحلى بالمروءة والكرم فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء فعن أبي سعيد الخدري : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : « صدقة السر تطفىء غضب الرب و صلة الرحم تزيد في العمر و فعل المعروف يقي مصارع السوء» أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (3442) وصححه الألباني.

ولا يحل للمدين أن يماطل الناس في حقوقهم أو يجحدهم أو يتأخر عليهم وهو قادر على السداد فعن أبي هريرة قال: « مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع» أخرجه البخاري (2166) ومسلم (1564).

وعن عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيُّ الواجد يحل عرضه وماله» رواه النسائي (4689) وابن ماجة (2427) وصححه ابن حبان في صحيحه (5089 ) والحاكم (7065 ) وقال صحيح الإسناد وقال الشيخ الألباني : حسن
قال العلماء: ( لي الواجد ) أي مطله، والواجد القادر على الأداء . ( يحل عرضه وعقوبته ) أي الذي يجد ما يؤدي يحل عرضه للدائن بأن يقول ظلمني . وعقوبته بالحبس والتعزير .

وعن أبي هريرة عن النبي ^ قال: « من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه و من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» رواه البخاري (2257)
والمعنى: ( يريد أداءها ) قاصدا أن يردها إلى المقرض . ( أدى الله عنه ) أي يسر له ما يؤدي منه من فضله وأرضى غريمه في الآخرة إن لم يستطع الوفاء في الدنيا . ( إتلافها ) أي لا يقصد قضاءها . ( أتلفه الله ) أي أذهب ماله في الدنيا وعاقبه على الدين في الآخرة.

وعن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل تدين دينا وهو مجمع أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً» رواه ابن ماجة (2410) و الطبراني في «المعجم الكبير» (8/ 34 ح7301) والهيثم بن كليب الشاشي في «مسنده» (994) وصححه الألباني.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثَّم (أي هناك) دينار ولا درهم» رواه ابن ماجة(2414 ) بإسناد حسن وصححه الألباني.

فالواجب على من عليه دين حالٌّ وعنده سداد أن يبادر بالوفاء، لأن أداء الحقوق الحالَّة على الفور إذا طالب بها أصحابها، كما قال العلماء رحمهم الله. ولذلك يحل عرضه بالشكوى منه وحبسه حتى يؤدي ما عليه، وأما المعسر الذي لا يجد وفاء فلا يحل عرضه ولا حبسه. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

كتبه
سعد بن شايم
15-3-1433هـ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى