(ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
بسم الله الرحمن الرحيم
ضج الناس من غلاء الأسعار وقلة الأمطار واشتداد الفتن وتشاكوا فيما بينهم! ولم يشكوا أمرهم إلى ربهم ولم يلوموا أنفسهم على ما فرطوا واجترحوا، كأنهم غير مسؤولين ولا ملومين، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي (ذَلِكَ) العذاب الذي أوقعه الله بالأمم المكذبين وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم،فإن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن ازدادوا له شكرا. (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة إلى المعصية فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.
وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره.
وقد صح في الحديث عن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:
* لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا
* ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم
* ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا
* ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم
*وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم)).
أخرجه ابن ماجة وحسنه الألباني، ومعنى (ويتخيروا مما أنزل الله) أي يطلبوا الخير فيما أنزل الله. كما قال تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
وفي هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أسباب العقوبات هو كسب الناس وأعمالهم الرديئة، وقد بين الله هذا في كثير من آيات الذكر الحكيم، فمن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن جريج: قال ابن عباس: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وما أكثر صور المحاربة لله بالكبائر والضلالات والمعاصي والمنكرات، دون إحساس من الناس بتقصيرهم في جانب ربهم وتعديهم لحدوده وخوف من عقوبته.
وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) أي: ظهر فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها في البر والبحر، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي: ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم. فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.كما قال عزوجل وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا).
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى : (ظهر الفساد في البر والبحر) قال ابن عباس قال : هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتربوا قال النحاس : وهو أحسن ما قيل في الآية وعنه أيضا : أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقال عطية : فإذا قل المطر قل الغوص عنده وأخفق الصاديون وعميت دواب البحر وقال ابن عباس : إذا مطرت السماء تفتحت الأصداف في البحر فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ وقيل : الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش وقيل : الفساد المعاصي وقطع السبيل والظلم أي صار هذا العمل مانعا من الزرع والعمارات والتجارات والمعنى كله متقارب.اهـ
وقال العلامة ابن القيم في الجواب الكافي: ومن عقوبات الذنوب إنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد نعمة الا لسبب ذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة وقد قال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وقال تعالى: (ذلك بأنَّ الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها علي قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه فغذا غَيَّرَ غُيِّرَ عليه جزاءً وفاقاً (وما ربك بظلام للعبيد) فإن غير المعصية بالطاعة غير الله عليه العقوبة بالعافية والذُّلّ بالعز قال تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).اهـ
فعلى العباد اللجوء إلى الله في رفع البلاء ودفعه، وإصلاح أحوالهم معه بالتوبة والتقوى كل يحاسب نفسهن ولا يرمي اللوم على غيره. قال تعالى مرغبا عباده بالرجوع إليهم: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) . وهذا من كرمه وجوده، حيث ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة، دعاهم إلى التوبة، وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته، وجميع كتبه، وجميع رسله، واتقوا المعاصي، لكفر عنهم سيئاتهم ولو كانت ما كانت، ولأدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ) أي: قاموا بأوامرهما ونواهيهما، كما ندبهم الله وحثهم.ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم، أي: لأجلهم وللاعتناء بهم (لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي: لأدر الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ).
فاللهم عافنا واعف عنا ولا تؤاخذنا بذنوبنا وما فعل السفهاء منا.
27-10-1431