ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
إن من أخلاق اللؤم وسوء العشرة ما يتخلق به بعض الناس من أخلاق الكيد والمكر بإخوانهم المسلمين، وقد جعل الله تعالى من سنته الكونية والقدرية التي لا تتبدل أن المكر السيء عائد على صاحبه بمثل كيده ومكره وبين تعالى في شرعه وهو القرآن أن هذا المكر يعود على صاحبه، وشؤمه مردود إليه بأكمل حظ من السوء قال الله تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسِهم دون غيرهم، كما هي سنة الله أي طريقته الثابتة في عقاب الأم السابقة وهي سنة لا تتبدل ولا تتحول. قال ابن جرير الطبري: أي ولا ينزل المكر السيئ إلا بأهله، يعني بالذين يمكرونه؛ وإنما عنى أنه لا يحل مكروه ذلك المكر إلا بهم.اهـ.
وقال القرطبي: قال الكلبى: (يحيق) بمعنى يحيط. والحوق الإحاطة، يقال: حاق به كذا أي أحاط به. وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (إنما بغيكم على أنفسكم) (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه). وعن ابن عباس أن كعب الأحبار قال له: إني أجد في التوراة : من حفر لأخيه حفرة وقع فيها؟ فقال ابن عباس: فإني أجد في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقْرأْ (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله).
ومن أمثال العرب : من حفر لأخيه جُباً وقع فيه منكباً، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)، ولا تبغ ولا تعن باغياً فإن الله تعالى يقول: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) وقال تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم) وقال بعض الحكماء:
يا أيها الظالم في فعله ** والظلم مردود على من ظلم :
إلى متى أنت وحتى متى *** تحصي المصائب وتنسى النعم
وفي الحديث «المكر والخديعة في النار». فقوله: «في النار» يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار؛ لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث: «وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة». وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة اهـ .
قلت: وحديث الزهري مرسل ضعيف رواه ابن المبارك في كتاب الزهد، وحديث «المكر والخديعة في النار» رواه الطبراني في الصغير عن ابن مسعود وله شواهد مرسلة وموصولة وحسنه الشيخ الألباني وحديث «ليس من أخلاق المؤمن الكر ولا الخديعة» فيه ضعف رواه ابن وهب في جامعه من مرسل مجاهد.
قال العلماء : يحرم المكر السيء والخديعة أي بمن أمِنَ جانبك لأنه عدوان قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به وأخرجه الترمذي من حديث أبي سلمة الكندي عن فرقد السبحي وهو ضعيف عن مرة بن شراحيل الهمداني عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وإسناده ضعيف، لأن فرقدًا لين الحديث .
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا» ومعنى خبب أي أفسد وخدع . وهو بخاء معجمة فباءين موحدتين تحتيتين
وعن أبي صرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من ضار ضر الله به ، ومن شاق شق الله عليه» أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب ، وفي نسخة صحيح.
وقد حرم الله خديعة الكافر والمكر به إذا أعطي العهد والأمان فكيف بالمسلم الذي هو كنفسك من حيث وجوب رعاية حقوقه وحرماته قال تعالى في حق المعاهدين من الكفار : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ).
قال القرطبي: والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والموادعة، فتكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم -بينك وبينهم عهد- خيانةً فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله: «إن الله لا يحب الخائنين.اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم « وإما تخافن من قوم » قد عاهدتم « خيانة » أي نقضا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود « فانبذ إليهم » أي عهدهم على سواء أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك وأنه لاعهد بينك وبينهم على السواء أي تستوي أنت وهم في ذلك قال الراجز:
-فاضرب وجوه الغدر للأعداء*** حتى يجيبوك إلى السواء
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى « فانبذ إليهم على سواء » أي على مهل
« إن الله لا يحب الخائنين » أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضا روى الإمام أحمد عن سليم بن عامر قال كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لاغدر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولايشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» قال فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني في السنن والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن صحيح.اهـ.
هذا مع الأعداء الكفار فكيف بالحال مع المسلمين الذين تتأكد حقوقهم وتعظم فإنهم في ذلك كنفسك ألا ترى أنه يقول تعالى: {سلموا على أنفسكم}، أي يسلم بعضكم على بعض. وقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} يعني تعالى ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضا، ولا يقتل بعضكم بعضا؛ لأن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بإخوانها، وعن إخوانها بأنفسها، فتقول: أخى وأخوك أينا أبطش، تعني أنا وأنت نصطرع فننظر أينا أشد، فَيُكْنِي المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عنده العرب كنفسه؛ وأخوة الدين أبلغ من أخوة النسب ومن ذلك قول الشاعر:
أخي وأخوك ببطن النسير *** ليس لنا من معدٍّ عريبُ
أي أنا وأنت إذا تقاتلنا نكون طعاماً ببطن النسر وليس لنا هنا قرابة من قبائل معد بن عدنان من دوننا فالأولى أن نتناصر ونتعاون لا نتقاتل وصح في الحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المستشار مؤتمن» رواه أبوداود الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي قال هذا حديث حسن وله شاهد من حديث أم سلمة عند الترمذي ومن حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجة فالمستشار -وهو من تطلب منه المشورة- مؤتمن يجب عليه أداء الأمانة ولا يحل له كتمان الحق ونقص النصيحة ولا المخادعة والمكر، فالدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن تميم الداري
من أخطر المكر وأشده وبالاً المكر والمخادعة مع الله وفي دينه ومحاربة رسله وأوليائه فإن الله ناصر دينه ومنتقم لأوليائه، فإنه يملي ويمهل للظالم كيداً به ثم ينتقم منه كما قال تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين) أي وأمهل لهم قليلاً كيداً بهم فإن كيده تعالى بالظالمين شديد وقال الله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) وقال: (إنا كفيناك المستهزئين) وفي الحديث القدسي: قال تعالى: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» رواه البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً ويذكر عن بعض السلف قوله: لا تحقرن مسلماً فإنك لا تدري لعله وليٌّ من أولياء الله . وعن أبي برزة الأسلمى قال : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق فقال «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته حتى يفضحَه في بيته». أخرجه الإمام أحمد وأبوداود بسند حسن.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه :
سعد بن شايم
عرعر
٩-١٠-١٤٣٢هـ